قراءة في المشهد الصوفي لأسا





تمثل هذه المداخلة محاولة لقراءة أولية في المشهد الصوفي لأسا، لأن هذه الأخيرة تعد بحق مجالا متميزا من حيث الحضور الرمزي للولاية و القداسة. لكن، و بقدر هذا الحضور الملفت، بنفس القدر لم يحظ هذا المجال بعناية الباحثين و المهتمين بتاريخ التصوف المغربي.
بيد أن هذا الأمر لا يعني غياب ما يوثق النشاط الصوفي ببلاد أسا، فقد حفلت الذاكرة الشعبية المحلية بالكثير من الإشارات التي اختزنت الموروث الصوفي في صور متعددة، بعضها جاء محمولا في الروايات المتداولة بين الأهالي عن سير مؤسسي زاوية أسا. والبعض الآخر عبرت عنه الثقافة الشعبية المحلية في صور و أشكال تعبيرية صادقة؛ بالإضافة إلى الآثار المادية لمراكز النشاط الصوفي المنتشرة في أكثر من بقعة أساوية.
و ما يؤكد حضور و استمرارية الذاكرة الشعبية في حفظ التراث الصوفي لهذه الجهة، ما وقف عليه الرحالة الأجانب خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث استوقفهم بالخصوص عبق المسحة الصوفية في المجال و تعلق الأهالي بأوليائهم وصلحائهم؛ مما جعل بعضهم يعترف، بحسب ما جمع من روايات، أن واحة أسا هي أرض 366 ولي[1].
لقراءة المشهد الصوفي بأسا، نقترح المسارات التالية:
-       التسميات و دلالاتها الرمزية.
-       المجال و توطين الزاوية.
-       المؤسسون المفترضون للحضور الصوفي بأسا.
-       الشيخ إعزى و يهدى: المؤسس الفعلي للزاوية الأساوية.

1. تسميات المجال و دلالاتها الرمزية
      بالرجوع إلى مختلف الأصول التاريخية الأولى نلاحظ غيابا شبه كلي لسير رجالات أسا، لكن في المقابل نسجل حضورا قويا لهم في المخيال الشعبي، و هو الأمر الذي انتبه إليه الرحالة الأجانب الذين حملوا ما سمعوا من روايات عن رجالات أسا. لكن جهل هؤلاء بآليات الفحص و التحليل جعلهم غير دقيقين في رصد مظاهر الحياة الصوفية ببلاد أسا. لكن بقراءة أولية يلاحظ أن هذه الناحية انخرطت مبكرا في النشاط الصوفي، بدليل محتوى الروايات نفسها التي اعتمد عليها الرحالة الأجانب للتقرير بتميز أسا صوفيا.
      ولتوضيح الصورة أكثر نورد بعض المؤشرات الدالة على هذا الحضور، وهي في الغالب مستوحاة من الذاكرة الشعبية، ثم نقوم بوضعها في سياقاتها التاريخية المحتملة.
شاع بين أهالي أسا أن بلدتهم هي بلاد الإمام، والإمام هنا يحيل على أكثر من مغزى ودلالة. فقد تعنى به الإمامة في بعدها الشرعي و الإمامة الدينية و إمامة التصوف. فقد اشتهر أكثر من متصوف بهذا اللقب الرمزي الذي يشي بوصول صاحبه درجة عالية من الهمة الصوفية، سواء في سلوكه أو في تربيته للخلق، أو في شيوع طريقته بين الناس. فقد حمل هذا اللقب في الصقع السوسي الإمام امحمد بن سليمان الجزولي وأحمد زروق في مشرف المغرب، كما مثل عنوان شهرة العديد من شيوخ الزوايا عبر التاريخ الديني المغربي الطويل.
       ومن المحتمل جدا أن من حمل هذا اللقب من الأساويين لم يكن غير مؤسس زاويتهم الشيخ إعزى و يهدى، لما عرف عنه من خصال صوفية جعلت شهرته تطبق في الآفاق. مما يعني أن اختزان الذاكرة المحلية لتسمية أسا بلاد الإمام لم يكن مجرد تعبير عاطفي بوليها، بل تأكيدا على تأثير هذه الشخصية وحضورها الرمزي.
      وما يزكي هذا الاعتقاد المؤسس على حقائق واقعية ما جاء في تقييد " سلسلة الأنوار" لمحمد البربوشي في بداية القرن الثامن الهجري، من أن واحة أسا كانت تعتبر " قرية الأولياء". وهو دليل على أن وجود مؤشرات تثبت وجود نشاط صوفي مبكر سابق عن وصول الشيخ إعزى و يهدى إلى المنطقة في بداية القرن الثامن الهجري.
        من الإشارات الأخرى المؤكدة على ازدهار النشاط الصوفي ببلاد أسا، ما أوردته الرويات المحلية من أن أسا كانت تمثل القبلة الثانية بعد مكة المشرفة ومن أنها أرض الأولياء والصالحين. ولعل خير ما يعكس هذا الوجود الرمزي للمسحة الروحانية بأسا، وجود موقع أورير الأنبياء وما توحي به هذه التسمية من قداسة وروحانية.

2. المجال و توطين زاوية أسا
      تتوطن أسا مجالا جغرافيا وسطا بين كتلتين تضارسيتين جبلتين في السفح الجنوبي للأطلس الصغير، هما سلسلة باني من جهة الشمال وسلسلة واركزيز من جهة الجنوب. وساعدت هذه الوضعية الجغرافية على استقرار بشري مبكر، ساهم فيه بصورة كبيرة الانبساط الملحوظ للمجال ووجود ثروة مائية ومجال نباتي ملائم؛ بحكم أن أسا شكلت امتدادا طبيعيا لمجال الواحات بالجنوب الشرقي للمغرب.
      يقابل هذا الوضع الطبيعي وضع بشري خاص، تمثل في ثنائية التكوين القبلي بأسا. فمن المعروف أن البنية القبلية الأساوية مشكلة من كتلتين متميزتين هما حلف إدا ومليل وحلف إدا ونكيت، وكلا الحلفين يندرجان ضمن اتحادية تكنة الكبرى.
       تتشكل هذه الإتحادية من لفين كبيرين هما لف أيت جمل ولف أيت عثمان، هذا الأخير شكل الإطار الموحد لأكثر من ثماني قبائل، من ضمنها قبيلة أيت أسا. ويظهر أن وضعية أيت أسا ضمن هذا اللف أملته توازنات داخلية وصراعات داخل إتحادية تكنة، فعلى إثر نزاعات حول المجال مع قبيلة أيت لحسن، إحدى مكونات لف أيت الجمل، انتقلت قبيلة أيت أسا إلى اللف المعارض، أي لف أيت عثمان حفاظا على مصالحها الحيوية. ويبدو أن هذه التغيرات حصلت خلال القرن السابع عشر الميلادي في ظل اختلال للتوازن الاقتصادي في منطقة الجنوب الشرقي المغربي.
      وبالرجوع إلى انتظام القبائل بالمجال الأساوي، يظهر نوع من التقسيم بين مكونات القبيلة بين فرع إدا أومليل أو أيتوسى الساحل الذي استوطنوا المجال الغربي، أما فرع إدا ونكيت أو أيتوسى الشرك، فقد استقروا بالجهة الشرقية، حيث مارسوا النجعة كنمط اقتصادي.
      و تظهر الصورة البشرية ثنائية واضحة في التركبة القبلية يوازيها تعارض في استغلال المجال وثرواته الطبيعية، وكلما كان هناك تعارض بين المكونات البشرية كلما ظهر دور رجال التصوف في خلق نوع من التوازن. وما يزكي هذا الأمر هو أن تأسيس الزوايا كان على الدوام متصلا بالوساطة والتحكيم وخلق شروط التآلف بين مكونات المجتمع، وليس غريبا أن يكون تأسيس زاوية أسا ضمن هذا المجال بغاية خلق نوع من التوازن بين مكوناته. فالزاوية، وإن كانت في الأصل مجرد مركز ديني تعليمي ووعظي، إلا أنها اضطلعت بدور حاسم في ضبط التوازنات القبلية وتنظيم العلاقات الاجتماعية. فشيخ الزاوية، وعلى الرغم من الصورة الرمزية التي تلصق به، إلا أنه ظل على الدوام عنصر توازن، نظرا لخصاله الدينية وهيبته المكتسبة من أدواره وسمعته وتأثيره الروحي في الأوساط الشعبية؛ بل كان رمزا لوحدة أكثر من قبيلة و عنوان صيتها.
      لقد حرص شيوخ الزوايا أن يختاروا لأنفسهم مجالات وسطى بين القبائل ليقوم بدور الموازن بين خلافاتها والراعي لأوفاقها وعقودها، كما ظلت الزاوية الموضع المأمن و الملجأ المحصن لكل مظلوم أو ملتجأ أو هارب من ظلم أو جور. ولم تكن هذه الأدوار إلا من الوظائف الدائمة التي حرصت الزاوية على القيام بها، طواعية أو نيابة و توكيلا من السلطان، فهي في هذا الجانب تؤازره في رعاية شؤون الرعية من دون تطلع ظاهر نحو زعامة متوقعة؛ كما أن القبائل ترغب في ذلك، فتجزل عليها العطايا و تتتنازل لها عن الأراضي و تصرف لها الزيارات، لتقوم بتلك الأدوار على الوجه الكامل.


[1] DE Furst, Etude sur la tribu des Ait Oussa, 1934.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مواقع فترة ما قبل التاريخ بالمغرب

الاولياء والأضرحة بالمغرب

الدراسات الاستمزاغية في المغرب